كلمة لجنة دعم الصحفيين خلال ندوة الحرب الاعلامية بين السياسة و أخلاقيات المهنة

2022-10-19 10:41

معرض الصور فرنسا

السادة الحضور

شكرا لمشاركتكم لنا هذا اللقاء حول الحرب الاعلامية بين السياسة واخلاق المهنة

إتخذت الحروب شكلًا جديداً في عالم اليوم فلم تعدْ كما كانت صراعاً بين جيشين في ميادين المبارزة ولم تعد تقتصر على الاسلحة التقليدية او حتى الحديثة بمعناها المعروف عند العسكريين بل استحدثت وسائل وأساليب جديدة تزامنًا مع التطور التكنولوجي المستمر خاصةً في مجال الاتصالات والمعلومات، فالسلاحُ الرئيس في هذه الحرب الجديدة هو الأدوات الذكيّة والأجهزة الإلكترونية ومنظومات الإتصال والتواصل المعتمدة على قوة الصورة وخصب الخيال وضعف الحسّ النقديّ كبديل عن الحروب التقليدية المُعتمدة على قوة النيران.

تتسّم أسلحة الفتك الحربي الحديثة بأنها شاملة وفردية فهي تطال الجميع فتدخل المنازل عبر صندوق الأحلام أي  (التلفزيون) وإلى غرف النوم مع الكبار والصغار من خلال شاشات الهواتف ساعيةً الى تحقيق نتائج الحروب التقليدية بأقل قدر ممكن من القتال وإن كان بعدد اكبر من الضحايا، فلا نجاة لأحد اليوم من ذخيرة الحروب الجديدة (الصورة) القادرة على تحقيق اصابات نقطوية في كل مرة تستخدم فيها.

يعيشُ عالم اليوم تحت وطأة الصورة لكنها ليست الصورة التي تحكي الواقع او تحاكيه او تساهم في تشكيله أو إعادة تشكيله بل هي الصورة المضادة له والمهشمة لتكونيه والمتعالية عليه، حيث بات المتلقي – الانسان يعيش في افق وهمي صنعه مخيال الصورة وصُنّاعها بدل اندماجه المفترض في عالم الحياة الواقعيَ الحيَ.

ومعلوم ان للصورة واقعها المفارق وحياتها المنفصلة فهي لم تعدْ كما كانت يوماً رمزاً دالاً على واقع او اشارة حاكية عن لحظة مقتطعة من سياق الحركة في الزمان والمكان بل امست كياناً منفصلاً له حركته المستقلّة وزمانيته المصنوعة ومكانيته المكوَّنة من خيال الصانع ذي الغرض.

 إننا في عالم فرضياّت الصورة،عالم الصناعة الصوريّة،عالم تشكيل المخيال من خلال مصانع الصورة وأدوات التحكم بالمعرفة والخيال،لا عالم الواقع المتشكّل مسبقا  في سياق انساني بيني له علائق وروابط ملموسة ذات طابع قيمي او انساني او إجتماعي.

يتعرض عالمنا اليوم الواقعي في زماننا هذا لاجتياح نسخ متطابقة لا أصل واقعي لها، فهي نسخ عن تصميمات ونماذج أولية لا تعكس موجودات سابقة بل تعكس تهويمات مخيالية مطلوبة، ما أدى الى انكماش الواقع وغيابه.

"لقد انتقل العالم من الرمز إلى التشبيه(الصورة الزائفة). والتشبيه هو ما ليس له أصل أو نماذج أولية في الواقع، ولا يحمل أي قيمة دلالية أو رمزيّة بل يتشكل في العالم الافتراضي المفارق انطلاقاً من تصميمات اوليّة مخيالية. وقد تفاعلت وتشابكت تلك الصور الزائفة مع عناصر مختلفة منها تحول ثقافة الإنتاج إلى ثقافة الاستهلاك،وطغيان الفرد واشتعال النرجسية والجموح المرعب نحو الانانية واللذة لتكتسب حضورًا وجاذبية وواقعية غير مسبوقة.

هذا الحال يعضده ادراكنا جميعا لهوية من يتحكم بالصورة وماهيته وغائيته فالصورة باتت منتجاً يتحرك مع رأس المال في مصانع الصورة لينتج مساراً خادماً للسلطة المتحكمة بهذا الكوكب إما لغرض الربح او لأغراض تتعلق بهوية العالم وما ينبغي ان يكون عليه .

ومع احتساب التضاد بين الصورة والصورة حيث لكل صورةٍ صورةٌ تضادها تتراكب الاسئلة. فهل هناك أسلحة دمار شامل في العراق؟ ما الذي حدث في 11 سبتمبر؟ ما الذي يجري الان بين روسيا واوكرانيا؟هل قتل بن لادن حقا؟ ومن هم المسلمون وما هي الاسلاموفوبيا؟

هناك دائما صورة تصادم صورة ومع التدفق المفرط للصورة يصبح العالم عصيّاً بشكل كليّ على الفهم ومطلوب من الناخب ان يذهب للاقتراع ومتوقع من صوته ان يحدد المسار العالمي للسياسة في عالم لا واقع فيه وفي عالم يبدو عصيّاً على الفهم اكثر من أي وقت مضى .

كل هذا التصارع بين الصور أدى الى إنتفاء الماهيات واختلاط  الهوية باللاهوية المتشكلة في ضوء الصورة وتحت ضغطها ،  فانكسرت الذات وانسحبت من عالم الواقع الى عوالم الوهم الافتراضي  وأمست عرضة لإعادة التشكيل الكليّ في شتى المجالات النفسية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وبات عالم تأكيد الذات الحقيقية عالماً وهمياً وصار حاصل الذات كله افتراضياً  ما انعكس شتاتاً في العالم الواقعي بكل اتجاهاته الاجتماعية والدينية والأخلاقية .

إن التطور الكبير لدور وسائل التواصل الاجتماعي ادخل الوهم الشخصي للفرد الى عالم صناعة الصورة والخبر حيث بات الفرد هو المحرر والمصور والناشر وبات وهمه المصنوع امتداداً لوهم الصانع الاصلي ومندكا فيها ومتغذياً من وهم التميز الفردي وحقوق النشر والتعبير بمعناها الاستهلاكي لا بمعناها الاصيل مما اربك عالم الصورة اكثر من ذي قبل وساهم في تعقيد عملية اقصاء الواقع واخفائه .

إن أثر حروب الصورة وغياب الواقع لصالح تصنيع الواقع على نوعيّة انظمة الحكم المتسيّدة للعالم يطرح السؤال الكبير حول حقيقة الديمقراطية وهل هناك " ديمقراطيات حقيقية تقوم على امتلاك الشعب لقنوات المشاركة الفعالة فى عملية الحكم والإدارة وما يتبعها من قنوات إعلامية حرة وغير موجهة "،ام اننا امام فاشية عالميّة تتحكم من موقعها السلطوي باخلاقيات المهنة وتستخدم الاعلام كسلاح حربي يفتك بالواقع بدل تفعيله كترس حامٍ للناس من ويلات الحروب.

إن حروب الصورة كشفت عن ديمقراطية الواجهة أو الديمقراطية الشكلية التى تكون فيها وسائل الاعلام خادما للسلطة الحاكمة تبثّ من خلالها الصورة المخلّقة عن الواقع والمسوِّغة لوجهات نظرها لدفع الجمهور الى واقع الصورة ،حيث يسيطر الخوف من الصورة وان كان الواقع غير مخيف او الرغبة في الانتقام من متضمنات الصورة حتى وإن لم يكن في الواقع الخارجي المغيّب ما ينبغي الانتقام منه فيمسي القرار الذى يتخذه صانع القرار إنما هو ذاته ما يريده الجمهور بعد اعادة تشكيله من خلال بث صورة مفارقة عن سيرورة الأحداث .

هذا  الصراع كلّه يستهدف بشراً يقصفون يومياّ بدفعات هائلة من المعلومات المتناقضة والمتشعبة ما يسلبهم الثقة في مواقفهم ويفتت ولاءاتهم ويمحو واقعهم بدرجة أو بأخرى، "وهم الذين يعانون سيولة في المعاني نتيجة غياب العلاقة بين الدال «التشبيه» والمدلول «الواقع الخارجي»، ما يجعلهم فريسة نموذجيّة للاغتراب والقلق فينساقون عمياً الى اتون معارك الوهم التي لن تنتهي.

هنا يحق لنا ان نسأل وفي ضوء ما اصلناه من منظور لمقاربة العلاقة بين الصورة والحرب ،كيف سنفهم ما جرى ويجري في العراق؟ او سوريا او اليمن او فلسطين او اوكرانيا او كوريا الشمالية او الاكوادور أو فنزويلا وغيرها؟ مادامت منافذ الصورة تُنتج في مصانع الوهم \ وعالم الواقع مقصي ومهشم وغير ممكن الادراك .

سيبقى السؤال معلّقا والجواب افتراضا غائماً ما لم يبادر العاملون في حقل الإعلام وغيرهم من المهتمين بالانسان ومستقبل حياته الى العمل على استعادة الواقع لمكانته المحوريّة على حساب الصورة – الوهم وأن يمارسوا دورهم في تعزيز الحسّ النقدي والسعي الحثيث للكشف عن زيف الصورة المصنّعة والعمل الدؤوب لاستعادة المكانة المحورية للواقع الحي وذلك عبر الكشف المستمر عن الزيف المتجذر في مصانع الصورة واطلاق حركة شعبية حقوقية واسعة وعالمية ترتكز الى مفاهيم قيمية معيارية تجعل من الانسان محور الحياة وتجعل سعادته واستقراره هدفان كليان للسعي والعمل.

 كما وينبغي عليهم ان يطوروا آليات لكشف الإفتعال بكل اشكاله المصورة والرمزية لان المسألة لم تعد سياسيّة آنية بل باتت قضية الانسانية التي يتوقف عليها حقا مصير الجنس البشري ككل.

تدور الكثير من الحروب على سطح هذا الكوكب وتموت الناس جوعاً وعطشاً وفقراً وتباد شعوب وتشطب دول عن خارطة السياسة في كل يوم بل في كل دقيقة ذلك كلّه لأن من ينبغي لهم ان يعلموا ما يجري لا يعلمون ما يجري، ومن يجب عليهم ان يشاركوا في تغيير ما يجري لا يشاركون ، فهم يعتقدون ان نشرة الأخبار استمرار آخر لفيلم السهرة ولأن من يفترض أنهم أدوات المعرفة باتوا جزءاً من عالم الاستهلاك في السعي الى النجومية ومواكبة متطلبات الانتشار وزيادة الاستهلاك.

انها مهمّة صعبة لكنها ليست مستحيلة.