لـــو كـــــــــان أســـانــــــــــج يـــســـمــــــى بـنـافـالـنــــــي

2021-11-30 12:53

التقارير

لـــو كـــــــــان أســـانــــــــــج يـــســـمــــــى بـنـافـالـنــــــي

ســـــارج حــلــيــمــــي و بــيـــــار رمــبـــــار- لومند ديبلوماتيك

في مارس/آذار 2017، أتمّ جوليان أسانج عامه الخامس من اللجوء بمقرّ سفارة الاكوادور في لندن. يصمّم أصحاب القرار داخل وكالة المخابرات المركزية على القبض عليه ويخططون لتصفيته: ذلك لأنّ ويكيليكس التي شارك أسانج في تأسيسها كشفت مؤخرا عن الوسائل التي تستخدمها هذه الوكالة للتّجسّس على الأجهزة الالكترونية. كان هذا التّسريب حاسما. بداية، فكّر قادة الوكالة في تنفيذ عملية اختطاف. لكنّ مسألة انتهاك سيادة سفارة الاكوادور من أجل خطف مواطن استرالي لاجئ في لندن سيكون أمرا حسّاسا من الناحية الدبلوماسية. ثم أقنعوا أنفسهم بأن أسانج يستعدّ للفرار إلى روسيا بتواطؤ بين الاكوادور والكرملين. عندها، وضعوا المزيد من الخطط الأكثر إثارة: «اشتباكات مسلّحة مع عناصر من الكرملين في شوارع لندن، وتصادم مع سيارة ديبلوماسية روسيّة يركبها أسانج من أجل القبض عليه، إطلاق النار على عجلات طائرة روسية على متنها أسانج قصد منْعها من الإقلاع في اتّجاه موسكو(...). ومن ضمن الفرضيات احتمال أن يحاول أسانج الهرب في عربة غسيل». في نهاية المطاف، جاءت معارضةُ البيت الأبيض لعمليّة معيبة من الناحية القانونية لتطيح بهذه الخطط.

كلّ هذه العناصر جاءت مفصّلةً في مقال طويل نشره على الانترنت يوم 26 سبتمبر/أيلول فريق من الصحافيين التّابعين لياهو نيوز بعد أن استجوبوا حوالي ثلاثين موظّفا في وكالات أمنية أمريكية(1). ثم إن مايك بومبيو الذي كان يشغل منصب مدير وكالة المخابرات المركزية آنذاك لم يتستّر على لعبته حين قال في شهر افريل/نيسان 2017: «يعتبر ويكيليكس جهاز استخبارات معاديا للولايات المتحدة بتشجيع من روسيا في أغلب الأحيان(...). لن نسمح بعدَ الآن لزملاء أسانج باللجوء إلى حرّية التّعبير لسحقنا بواسطة أسرار مسروقة. سنكون وكالة أكثر غطرسةً ممّا سبق، وسنرسل أشدّ أعواننا شراسةً إلى أخطر المناطق على الإطلاق لِسَحْق هؤلاء».

لم يكن التّحقيق الذي أنجزته ياهو نيوز ليمرّ دون أن يَحظى بتداوُل إعلامي كبير: افتتاحيات مغتاظة باسم الحقّ في الإعلام، وأنّ الديمقراطية في خطر، و«معاداة الليبرالية» المتصاعدة، والرّحم التي مازالت قادرة على الإنجاب، إلى غير ذلك. خصوصا وأنّ المحقّق الرئيسي مايكل ايسيكوف لا يمكن اتّهامُه بالعداء لأمريكا أو بالتعاطف مع موسكو: في مارس/آذار 2018، أصدر كتابا عنوانه «الرّوليت الرّوسيّة:التاريخ السّرّي لحرب بوتين على أمريكا».

رغم ذلك وبعد انقضاء أسبوعين على ما كشف عنه ياهو نيوز، لم تخصّص وول ستريت جورنال ولا الواشنطن بوست ولا نيويورك تايمز ولو سطرا واحدا لهذا الموضوع(2). كذلك الامر بالنسبة لكلّ من لوموند ولوفيغارو وليبراسيون ولي زيكو ووكالة الصحافة الفرنسية. صحيح أنه وقع التطرّق للموضوع في النسخ الإلكترونية لكلّ من الغارديان وكوريي انترنسيونال ولوبوان وميديا بارت وسينيوز، لكن دون استفاضة في أغلب الأحيان. يمكن القول إنّه لا أحد انتبه إلى الخبر تقريبا، أمّا وكالة بلومبرغ فقد خصّصت له 28 كلمة.

لنتذكّر الآن الانفجار العالمي الذي سبّبته محاولة اغتيال المحامي الكساي نافالني(3). يتعلق الأمر بمعارض آخر للسّلطة شجاع، ومبلّغ آخر تهدّده الدولة وتضطهده. لكنّه مُحتجَز في غرفة إيقاف روسية لا في سجن لندني. يوضّح التعاطي الإعلامي المختلف للبطليْن بشكل واضح مدى مرونة مفهومي «حقوق الإنسان» و«حرية الصّحافة» اللذيْن تلوّح بهما وسائل الإعلام الغربية في كل المناسبات. ذلك أنّ كل شيء يتمّ كما لو أنّ معارضة نافالني للرئيس فلاديمير بوتين جعلته «إنسانيا» أكثر من أسانج المنشقّ بدوره لكن عن «العالم الحرّ».

بيّن كلّ من ادوارد هرمان ونعوم شومسكي في كتابهما الكلاسيكي المعنون «صناعة التّوافق»(4) سنة 1988 أنّ «منظومة الدّعاية» تقدّم بشكل مختلف «ضحايا الانتهاكات داخل دولة معادية» والضّحايا «الذين ألحقت بهم الأذى حكومة بلادها أو حكومة دولة مُوالية لها». قدّم الكاتبان كدليل على ذلك عدم التناسب الصارخ في المعاملة بين عمليتيْ قتل رجال دين ارتُكبَتا في نفس الفترة تقريبا على يد الشرطة أو جماعات مسلّحة غير نظاميّة [وهما]:اغتيال رئيس الأساقفة السّلفادوري اوسكار روميرو في شهر مارس/آذار 1980، واغتيال القسّ البولندي جيرزي بوبيالسكو خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول 1984، وكلاهما معروف بمعارضته للسّلطة. بعد دراسة شاملة للعناوين الرئيسيّة في الصحافة الأمريكية، خلص هرمان وتشومسكي إلى أنّ «ضحيّة مثل بوليالوسكو له من القيمة ما يفوق قيمةَ دولة تابعة للولايات المتحدة بين 137 و179 مرّة». في تلك الفترة وهذا أمر مفهوم لدى جميع الناس، كانت بولونيا واقعة تحت التأثير السوفياتي أي في «إمبراطورية الشّرّ».

يعتبر الفارق بين ما سبق وبين الحالة التي نتناولها أقلّ سخريّة. فمنذ لجوئه إلى سفارة الاكوادور بتاريخ 19 جوان/حزيران 2012، ورد ذكْر أسانج في 225 مقالا من جريدة لوموند وفقا لأرشيف هذه الجريدة اليومية. خلال نفس الفترة، ظهر اسم نافالني في 419 نصّا صحفيا. لكن بصرف النظر عن الأرقام، جرى تطبيقُ منظومة تحليل مختلفة بالنسبة إلى المعارضيْن الاثنيْن. هكذا، تبيّن أنّ ثلاث افتتاحيات من مجموع خمس صادرة بجريدة لوموند ومخصّصة للقرصان/الهاكر الاسترالي تُلحّ على «المسار المتناقض لجوليان أسانج»، وهو العنوان الذي حملته افتتاحية عدد 15 أفريل/نيسان 2019 وقد ظهر بعد يومين فقط من اعتقاله في لندن على يد المصالح البريطانية: «قبل إثارة مسألة مصير» المبلّغين «الذين يكافحون ضدّ أسرار الدولة، من الضروري تدقيق حقيقتيْن واضحتيْن. أولاهما أنّ جوليان أسانج خاضعٌ للقضاء مثله مثْل جميع المواطنين(...). ثانيا، جوليان أسانج ليس صديقا لحقوق الإنسان». لم لا؟ «يستهدف المناضل المُعادي لأمريكا أسرار الدّول الديمقراطية، ونادرا ما يُهاجم أسرارَ الدول ذات الأنظمة الشموليّة». في المحصلة، كان ينبغي عليه أن يوجّه اهتمامَه أكثر إلى القوّة الحادية عشرة في العالم وأن يقلّل من اهتمامه بالقوّة العظمى الأولى.

نجد نفس الفكرة مجدّدا في افتتاحية ظهرت بعد ذلك التاريخ بسنة و تحديدا يوم 26 فيفري/ شباط 2020. الثابت أنّه «ينبغي عدم ترحيل أسانج إلى الولايات المتحدة»، حسب تقديرات الصّحيفة، ولكنّه «لم يتصرّف لا بصفته مدافعا عن حقوق الإنسان ولا بصفته مواطنا يحترم العدالة. (...) في مُقابل استعداده للانقضاض على أسرار الدول الديمقراطية، بدا أقلّ حماسا تُجاه الدّول الاستبداديّة». أمّا جريدة وول ستريت جورنال الذي سبق لها أنْ أباحت لنفسها منذ فترة طويلة «ازدواجيّةَ المعايير» الموالية للغرب، فقد كتبت انتقادا مُماثلا: «لم يكن أسانج يوما بطلا للشّفافية أو الحسّ الديمقراطي. يبدو أنّ أهدافه هي دَوْمًا المؤسّسات أو الدول الديمقراطية لا نظيرتها الاستبداديّة» (12 أفريل/ نيسان 2019).

في مقابل ذلك، كان الدّعم المقدّم إلى نافالني خاليا من التحفّظات. لم تتعرّض أيّ افتتاحية من افتتاحيات لوموند الخمس المخصّصة له (من أصل ثلاث عشرة افتتاحية ورد فيها ذكرُه) إلى «مساره المتناقض»، أو إلى وضعه «كمواطن خاضع للقضاء مثله مثل كلّ الناس». ذلك بالرغم من أن نضاله في صفوف منظمة قوميّة، ومشاركاته في مظاهرات معادية للأجانب في ما يعرف بـ «المسيرات الروسية»، وكلماتِه العنصرية التي استهدفتْ مهاجرين من القوقاز ومن آسيا الوسطى، كلها وقائع كلّفته فقدانَ مكانة «سجين الرّأي» التي منحتها له منظّمة العفو الدوليّة وذلك «بسبب بواعث انشغال بشأن تصريحات تمييزيّة صادرة عنه سنتيْ 2007 و2008، ويمكنها أن تشكّل تمجيدا للكراهيّة» (وإن كانت المنظمة قد أعادت إليه هذه الصّفة خلال شهر ماي/أيار بعد الاستخدام السّاخر لهذا السّحب الذي قابلته به السّلطات الروسية).

عندما يتعلق الأمر بـ «المحامي المدوّن المقاوم لفساد الدولة (...) الذي بصدد التحوّل إلى المعارض الأول لفلاديمير بوتين»، تختفي القسوة التي يُخصّ بها أسانج. يبلغ الأمر حدّ إبراز نافالني في الصفحة الأخيرة من جريدة لوموند في صورة سيّد عصري لشبكات التواصل الاجتماعي (16 جوان/حزيران 2017). بل وحتّى كزميل: «العمل الصّحفي الاستقصائي الذي يقوم به يُدين عالمَ الفساد بكفاءة عالية، عن طريق مقاطع فيديو تُنشرعلى النّات وتَحظى بمتابعة هائلة» (22 أوت/آب 2020). ثم إن نفس الصحيفة اليومية خصّصت للمُعارض الروسي قسما من صفحتها الأولى وافتتاحية ومقالا تمجيديّا، وكان كلّ ذلك مصحوبا بعمود كتبه نافالني وهاجم فيه ساكن الكرملين، «الرئيس الرّوحي للفاسدين». من جهة أخرى، ستدعو الجريدة الحكومات الأوروبية إلى «التخلّي عن كلّ مجاملة إزاء بوتين»(15 جانفي/كانون الثاني 2021).

في نشرية «جيوسياسة» التي تنتجها فرانس انتار، سنعثر على ذات التّخطيط. عندما تعلّق الأمر بأسانج، استنكر بيار هاسكي الملاحقات الأمريكية التي تستهدفه وانحازَ إلى الرأي القائل بعدم تسليمه. إلا أن هاسكي ذكّر المستمعين بـ «الجانب المعتم سواء الشخصي أو السياسي لشخصية أصبحت شيطانية». جاءت الأعمدة السّبعة التي خصّصها لنافالني بين يوم 1 جانفي/كانون الثاني 2018 و10 أكتوبر/تشرين الأول 2021 (مقابل اثنيْن لأسانج) دون أن تكشف عن أيّ تحفّظات من هذا القبيل. إنها تسلّط الضّوء على شجاعة المعارض الروسي وطاقته النضاليّة –وهما صفتان له لا جدال فيهما-كما أنّ لمؤسّس ويكيليكس منهما نصيبٌ.

خلال سنة 2019، قال الصحفي جاك ديون ملخّصا الوضع: «تتلخص مأساة جوليان أسانج في كونه استراليا وليس روسيّا. لو كان الكرملين هو الذي يلاحقه (...) لكانت الحكومات تتصارع من أجل شرف مَنْحه حقّ اللجوء ولكانت صورتُه معلّقة على واجهة بلدية باريس ولأطفأتْ آن هيدالغو أضواء برج إيفل إلى حين إطلاق سراحه»(5).

لقد تعلّق الصحافيون الغربيون بالقرصان الاسترالي الذي انتُخب «شخصيّة السّنة» لعام 2010 من طرف مجلّة «تايم»، وهو الذي كان يقدّم لهم الكثير من الأخبار الحصريّة في مناخ جيوسياسي أكثر هدوء. ثم عادوا ليهاجموه منذ عمَد ويكيليكس سنة 2006 إلى نشر مراسلات الكترونية تخصّ الحزب الديمقراطي، مراسلات كانت وكالة المخابرات المركزية تنسبها إلى عملية قرصنة روسية. من ذلك أنّ النسخة العالمية من نيويورك تايمز الصادرة بتاريخ 2 سبتمبر/أيلول 2016 قد عنونت مثلا «عندما يتكلم أسانج هل هو بوتين الذي يتكلّم؟»، لكن عندما أطلقت السّلطة الروسية التّسمية البذيئة «عملاء لفائدة الخارج» على عدد من المنظمات غير الحكومية، كان الشّعور بالسخط لدى الصحافة الغربية أمرا مشروعا.

طالما أن إدارة جوزيف بايدن لم تتخلّ عن مطلب تسليمه إليها بتهمة التّجسس، سيظلّ في السّجن. لو فرضنا أن الطلب الامريكي سيقابَل بالرّفض، آنذاك نكون قد عرفنا بعدُ بعضا من خطط الاغتيال التي ترقد في صناديق وكالة المخابرات المركزيّة. خلال الشهر الماضي، تحصّل صحافي روسي شجاع على جائزة نوبل للسلام لدفاعه عن حرّية التّعبير المهدّدة، فهل سيَحينُ دور أسانج في السّنة القادمة؟

 

 

 

 

1) زاك دورفمان، سيند. نيلور ومايكل ايزيكوف: «اختطاف واغتيال واشتباك بالأسلحة في لندن: من داخل مخططات الحرب السّرّيّة التي تخوضها وكالة المخابرات الأمريكية ضدّ ويكيليكس»، ياهو نيوز، 26 سبتمبر/أيلول 2021.

2) جون ماك اوفوي، «الصّمت القاتل: الصحافيون الذين يسخرون من أسانج ليس لديهم ما يصرّحون به حول مخطّطات وكالة المخابرات المركزية لاغتياله» ،نيويورك، 8 أكتوبر/تشرين الأول 2021.

3) هيلين ريشار «الكسندر نافالني، نبيّ في بلاده؟»، لوموند ديبلوماتيك، مارس/آذار 2021.

4) ناعوم شومسكي و إدوارد هيرمان، «صناعة التوافق»، منشورات لأغون، مرسيليا، 2008.5) جاك ديون، «آه لو كان جوليان أسانج روسيا...»، ماريان، باريس، 19-26 أفريل/نيسان 2019